أغادر بخُطى خفيفة، ومرنة، بينما تطوف عيناي في الممرات المُكتظة نهارًا بالمعاطف البيضاء، والمرضى، والكراسي المتحركة، وأيدي لا نهائية تَحمل أكواب القهوة، وأصوات لا تهدأ بلغاتٍ متعددة.
أشقّ طريقي الآن في الممرات بعد أن بثّت بها حياة مغايرة تمامًا. في أصيل اليوم يتوافد الزوار تزامنًا مع وقت خروجي، أيادي لا نهائية تحمل باقات الورود، وحافظات الطعام، وترامس القهوة، وأطفال يركضون بمرح في الممرات الفسيحة. أحاول بمروري التقاط البسمات والنظرات الحائرة من على وجوه الزوار، لأتشرّب السعادة من الوجوه المتهللة فرحًا وحَماسة، ولإتاحة فرصة مريحة للسؤال من الوجوه الحائرة في البحث عن الجناح المنشود. رؤية الزوار يتسابقون إلى غرف المرضى للاطمئنان والدعم يبهج خاطري ويملأ قلبي بالسكينة، يجعلني أُدرك قيمة كُل ما فعلت في هذا المكان وما أفعل. لأخرج من المكان بابتسامة هادئة تنمّ عن ارتياح عميق ونوايا تتجدد.
يجمعنا مجلس مُكتظ، تَصدح في أركانه أصواتنا وضحكاتنا الهستيرية الصاخبة، حتى توجّسنا من القهوة وما دُس فيها؟
أخذني حديثٌ جانبيّ عن إحدى تجارب الحياة المؤلمة، طرفان يتحدثان بأريحية عن حربٍ بسوس من على ساحل النجاة.
سالت الكلمات منّي بنعومة بَعدما كانت عُلقمًا يُذيب اللسان، تكلمتُ بانتصار الناجي وشفاهي تحمل بقايا ضِحكة من آخر نكتة سمعناها.
توقّف سيل الكلمات بغتةً حين طَبعت شفاه صغيرة قُبلة على كتفي الأيمن، سَكنت الأصوات والضحكات كُلها ولا أسمع سِوى صوت الرحمة حانيًا يهمس في أذني اليمنى ويطبب جِراحًا مُلتئمة، نظرتُ في عينيها وتفطّنتُ لسبب هذه القبلة المباغتة الصامتة العطوفة.
تبّسمتُ بعدما سال دمعًا باردًا من عيني وأسندتُ رأسها على كَتفي الأيمن، وكأني أحاول إخبارها بأني نجوتُ سليمة السريرة، كاملةُ الأطراف.
أجلس أمام شجرة ياسمين هندي أبواقها البيضاء المتساقطة تطرّز سجاد العُشب الأخضر، تهُب رياح خفيفة فترجف أغصان السرو وسَعف النخيل، أتنفّس بصمت وأفكر في لحظات هذا اليوم العصيب.
أتى صوته الجهوري الضاحك من إحدى زوايا الحديقة، تسبق خطواته عجلات تحتكّ بخشونة: طمّنهم إني بخير الحمدلله، والله إني بخير وصحة، الحمدلله.
رَفعتُ طرفي إليه، رجل يغطي جسمه الهزيل ثوب المشفى الواسع، لا أرى منه سِوى عينيه من تحت قبعة صوف رمادية وكمامة، يمشي ويدفع بيده جهاز لا يكفّ عن الطنين، ويضع هاتفه على أذنه باليد الأخرى.
عُدت بنظري إلى شجرة الياسمين، أتأمل ورودها الموزّعة في كُل غصنٍ كباقة مُتكاملة بعناية.
يهبُّ النسيم ولا أسمع سِوى صوت جهوري يردد برضا “الحمدلله”، لأردد خلفه بصوتٍ مُتهدّج: الحمدلله، الحمدلله.
تجمعنا بالعيد علاقة وطيدة مُنذ الولادة، ولا نتذكّر بالتأكيد لقاؤنا الأول به، لكن طُبع في ذاكرة أمهاتنا وآباؤنا ويتذكرون جيدًا حماستهم لرؤيتنا مرتدين الفستان الوردي الذي غُصنا فيه وتزيّن رؤسنا الصغيرة أطواق الورد أو البشت ذو المقاس (الشِبر) والعقال المقصّب، وبالتأكيد لا ندري أين تبخّرت الريالات التي وُضعت في الشنطة الوردية الصغيرة أو في جيب الثوب، فكل ما نرجوه في تلك اللحظة أن يكف الجميع عن قَرص وجناتنا الناعمة وأن ننام بسلام.
تتعاقب سنوات الطفولة ونُدرك شيئًا فشيئًا ما هو العيد، نترقّبه ونُعد له -الطراطيع- وأبهى الثياب. لتأتي سنوات الشباب فتتشكل علاقتنا بالعيد بصورة جديدة كليًا. يزورنا العيد وتتبدّل أثوابه بتتابع مراحلنا العمرية وحتّى الشعورية، ولكن جوهر العيد واحد، وهو: البهجة.
تتكرر على مسمعي كثيرًا هذه العبارة التي تحمل تحسرًا مذمومًا في نظري “العيد هذه السنوات ماله طعم، وين أعيادنا زمان يوم كنا صغار؟”، لأتساءل حينها، ما أعطيت للعيد لكي يعطيك؟ هل ترى تبدّل أثوابه وتبصر جوهره الراسخ؟ هل تتجدّد تناغمًا مع هيئاته الجديدة بمرونة؟
كلما تكررت هذه العبارة على مسمعي كلّما ازددت إصرارًا في استحضار البهجة أكثر، وعزمت على صُنع ذكريات سعيدة لجميع أفراد العائلة، أطفالًا كانوا أم كِبارًا.
بدأ شعوري بالمسؤولية تجاه بهجة العيد بولادة حفيدة العائلة الأولى، بدأت حينها بالاهتمام بتوثيق لحظات العيد في صور جماعية. ثُم بدأت أصبح شيئًا فشيئًا مانحة العيديات ولست آخذتها، ومن ينفخ البالونات لا من يفرقعها، ومن يشعل -أعواد نجوم الليل- لا من يرقص بها، لأجد السرور الأعظم في العطاء وإدراك فرحة من أُحب، وأدركت حينها هيئة العيد الجديدة في مرحلتي الحالية لاتناغم معه وأستقبله باسمةً في كُل عام وبطريقتي الخاصة.
تحمل ليالي رمضان قدرًا من الحيرة كما تحمله من السكينة، تترأسُ حينها مهمة تجهيز العيديات والهدايا وزينات العيد قائمة المهام، وتطغى على حواراتي مع القريبات والصديقات وتسأل كُل مننا الأخرى “ايش جهزتي لهذه السنة؟ محتارة هذه المرة” لتفضي كُل واحدة بأفكارها في تعاون إنساني لطيف تجمعه المحبة ويظلله العطاء.
لذا ستكون هذه التدوينة أشبه بدليل مرجعي بسيط للحائرين المفتّشين عن صناعة البهجة.
التغذية البصرية:
تسبق التجهيزات جولات استلهام بصري مُحترمة على Pintrest لاختيار ثيم الزينات والالوان وتغليف الهدايا، أراعي دائما تنوّع الفئات العمرية في اختيار الالوان والثيمات وأميل لاختيار ألوان فاتحة عادةً وزاهية وحيوية.
وَقع الاختيار في عيد هذا العام على اللون السماويّ الفاتح ولَمسات بسيطة من العنّابي والوردي، ترددت كثيرًا في اختيار اللون العنابي لكن وجدت فيه وداعًا لطيفًا لنهايات الشتاء واستقبالاً باسمًا لألوان الربيع المنعشة: الوردي والسماوي.
كما اعتمدت على شرائط المخمل الشتوية في التزيين والأقمشة الخفيفة السماويّة وورود بلونها الزهريّ والأبيض.
خطة الطوارئ:
تفعّل هذه الخطة ونهرب إلى هذا المخرج من أوسع الأبواب عندما لا نملك الوقت ورفاهية الاختيار، وذلك باختيار ألوان -فرائحية- وبهيجة، مثل: ألوان الباستيل، وتوظيف بعض الزينات البسيطة. ولَم يخذلني يومًا هذا المخرج.
بعد تحديد الالوان والثيم المناسب تبدأ الانطلاقة الفعليّة!
الزينات وركن العيد:
أفضّل دائمًا الاعتماد على البالونات بشكل أساسي في التزيين لما تضفيه ألوانها من مرح وبهجة على أركان المكان، ولا يقتصر دورها فالزينة فقط، بل تصبح فرحة إضافية عندما يشارك الأطفال في التنظيف والترتيب واللعب بالبالونات في نهاية اليوم.
كما يمكن توظيف بعض الزينات البسيطة بجانب البالونات وتطول قائمة الخامات والأشكال بما يتناسب مع الثيم المحدد. وللأيادي المُحبة للأعمال اليدوية، جرّبوا متعة صناعة الزينة بأيديكم، أجد في هذه المهمة سعادة عظيمة تتسرب من بين أصابعي إلى الخامات والأوراق، وكأني بهذه الطريقة أزيّن الحائط بسعادتي والقصاصات في آنٍ معًا.
لا يمكنني التطرق إلى الحديث عن ركن وزينات العيد دون ذِكر الرائعة والعزيزة جدًا نوف العبودي، كان لها فضلاً كبيرًا بعد الله في سَن سنّة حسنة في الكثير من البيوت. ولطالما كانت مرجعًا أهتدي به كلّما غلفتني الحيرة في الاستعداد والتجهيز لأجد عندها كنزًا إبداعيًا من الأفكار.
هذه بعض الحسابات -الرهيبة- على الانستقرام لاستلهام الأفكار وصناعة الزينات:
حساب نوف العبودي: @noof_alaboudi
@merimeriparty
@luciamallea
@genevavanderzeil
المسابقات والفعاليات:
خلال رحلة كتابتي لهذه التدوينة، وبينما أجلس مع أمي في إنتفاضة الجرد السنوي، مررت لي بطاقتان وهي تتبسّم بحب “لا زلت أحتفظ فيها، تتذكري؟”، فتحت الأوراق بنسيان تام وما إن قرأت فحواها ضحكت بصدمة لاحتفاظها بأوراق إحدى مسابقات عيد ١٤٤١هـ. أتذكرها من أبسط المسابقات وأعظمها أثرًا، كانت لعبة البحث عن الكنز ببساطة، ولكن كنزنا الثمين الذي تنافس الجميع لعدة دقائق في معرفته والوصول إليه لعدة دقائق هو: أمي.
لعبة البحث عن الكنز:
تقسّم العائلة إلى مجموعات بحسب أفرادها، وتبدأ اللعبة بتسليم بطاقة لكل مجموعة تحمل لغزًا يرشدهم إلى مكان البطاقة التي تليها، حتّى تصل المجموعة الأسرع إلى مكان الكنز. إعتمدت في التلميح للوصول إلى أماكن البطاقات على: لُغز، بيت من الشعر، نكتة، مثل شعبي. حتّى عثر الفريق الفائز على البطاقة الأخيرة. كان ختام هذه المسابقة عناق كبير شَمل أفراد العائلة جميعًا.
يمكنكم اختيار فرد العائلة الأكبر سِنًا والذي وجوده يمثّل كنزًا عظيمًا ومغنمًا رحيمًا.
سنن العيد:
رغم تفضيلي عادةً المسابقات الحركية، لكن أرى في فعاليات العيد فرصة تعليمية مناسبة جدًا في ذكر سنن العيد والحكمة منه وإحياء شعائره كما يجب، وذلك يشمل الأطفال والكبار. يمكن دَمج لعبة حركية مع أسئلة بسيطة عن سنن العيد.
لعبة (مين يعرفنا أكثر؟):
هذه من الفعاليات اللطيفة جدًا في الجلسات العائلية، تكون اللعبة بكتابة مجموعة أوراق يتم تمريرها بالتناوب بين أفراد الجلسة، كل ورقة تحمل سؤال خاص يُطرح على الجالسين. يحصل على الجائزة صاحب أكبر عدد من الإجابات الصحيحة.
أمثلة:
ما الاسم الذي كاد يكون اسمي بدل اسمي الحالي؟
ما هي أكثر عادة غريبة عندي؟
ما هو اللون الذي أحب ارتداءه أكثر؟
من كان أول صديق لي في الحياة؟
ما هو أول حيوان أليف امتلكته؟ وما اسمه؟
من هو الشخص الذي ألجأ إليه دائمًا عندما أحتاج إلى نصيحة؟
هل أنا شخص صباحي أم ليلي؟
هل أفضل الأماكن الهادئة أم المزدحمة؟
إذا كنت مضطرًا لأكل وجبة واحدة فقط مدى الحياة، ماذا ستكون؟
تتعدد الاسئلة بحسب طبيعة كل عائلة، لكن يفضل مراعاة اختيار أسئلة خفيفة ومُستساغة، وتفتح مجالاً للتعبير عن كل فرد واختبار تفاصيله البسيطة.
لعبة التخمين:
تناسب هذه اللعبة جلسة تشمل الأطفال والكبار، يقسّم الجالسين إلى مجموعتين أو أكثر، وتبدأ اللعبة باختيار فرد من المجموعة وإعطاءه صورة دون أن يراها لشخصية مشهورة/معلم تاريخي/حيوان/أداة. يحمل الصورة ويقف أمام مجموعته فيبدأ كل فرد من المجموعة بالتلميح بكلمة واحدة فقط دون التصريح بالجواب. وهكذا تتنافس المجموعات وتفوز التي تحصل على أكبر عدد من النقاط. (يمكن اختيار صورة أحد أفراد العائلة لجرعة ضحك إضافية!).
الأعمال اليدوية:
وهذه من أقرب الفعاليات إلى قلبي، فلطالما وَجدت ألفة ومتعة كبيرة في جلسات صِناعة الإبداع هذه وإكتشاف لجوانب فنيّة كامنة في أفراد العائلة.
تتناسب هذه الفعاليات مع الأعياد المسائية وتشمل الصغار والكبار بجميع الأعمار.
أفكار:
صناعة الشموع المعطرة وتزيينها بالورود والفواكه المجففة.
الرسم على الشموع.
الرسم على أواني الفخار وأصيص النباتات.
الرسم على المرايا/الحقائب/فُرشات الشعر.
تصوير صور جماعية/فردية بالكاميرا الفورية وتطريز الصور.
صناعة أساور وميداليات من الخرز.
تزيين الأساور وكفر الجوالات.
فعالية الرسم بألوان الاكريليك، يجلس الجميع في حلقة ويبدأ كل فرد في الرسم لمدة ٥ دقائق، ثم يتبادل الجالسين اللوحات ليكملوا الرسم لمدة ٥ دقائق، حتى تطوف اللوحة على جميع الجالسين، اللطيف أن كل لوحة في نهاية المطاف تحمل أفكار ولمسات من جميع الأفراد.
في تجهيز المسابقات أفضّل دائمًا أن يشارك الجميع من الكبار والأطفال؛ لمدة سنوات رأيت أثرًا كبيرًا وسعادة أكبر في نفوس الأطفال في المسابقات المشتركة أكثر من تلك التي أخصصها لهم. كما أراعي دائمًا خلق التعاون والمتعة المشتركة والضحك وذلك باختيار مسابقات تعتمد على أداء المجموعة أكثر من الجهد الفردي.
تنبيه: من أكثر الأمور التي يجب مراعاتها في المسابقات هي قدرات الأفراد والمجموعات، وذلك بتجنّب إحراج أحد الأفراد بمهام تفوق قدراته. مثل: مسابقة تتطلّب قراءة بطاقات وفي العائلة شخص تصعب عليه القراءة لأي سبب من الأسباب، إشراك الأطفال في لعبة تفوق قدراتهم الحركية أو المعرفية.
غاية الفعاليات ببساطة المتعة والضحك! أجد في الضحك دورًا عظيمًا في تعزيز أواصر المحبة والألفة بين أفراد العائلة، ومن أكثر المشاهد شاعريّة في نظري مجلس رحِب يضمّ عائلة تضحك بصوتٍ واحد.
بعد الحديث عن الاستعدادات أودُّ ذكِر خلاصة سنوات:
قيمة البَساطة، علّمتني هيئة العيد الجديدة في سنواتي الأخيرة البساطة والبحث عن بدائل مُناسبة وأخذ الأمور بيُسر وسهولة وبلا تعقيدات، هل سيسقط السقف على رؤوسنا إن لم تَكن الزينات مثالية؟ لا! هل سيعود العيد أدراجه إن لم تكن جميع البالونات مُتناسقة؟ بالتأكيد لا!
إذًا، استمتع في الاستعداد والتجهيزات مهما كانت بسيطة وغير مثالية ولا تُطابق الثيم المتوقع تمامًا. بل ابتسم واضحك أمام هذه التفاصيل.
أهمية إدارة الوقت، هذّبني العيد في السنوات الأخيرة من جانِب الوقت تحديدًا، وعلّمني تبكير جميع التجهيزات لتفادي -تمشية الحال- ما أمكن. تحديد المهام الرئيسية وكتابتها في ورقة بتفاصيلها الجانبية يختصر الكثير من الجهد ولتفادي الهدر في الوقت وتسرّب بعض المهام بفِعل النسيان.
طَلب المساعدة، بعد كتابة المهام، تأمل كل مهمة ستجد خَلفها جندي مُناسب من أفراد العائلة، اختيار الثيم وألوانه؟ يمكن أخذ المشورة من فرد في العائلة يملك طاقة إبداعية وتُحب عيونه اختيار الالوان ومطابقتها. نَفخ البالونات؟ هناك من يَجد متعة كبيرة في هذه المهمة. صِناعة الزينات؟ بالتأكيد يوجد من تَهوى يديه الأعمال الفنيّة.
علّمني العيد أن لكل مهمة هناك فرد من عائلتي يجد متعة كبيرة في إنجازها، وبهذه الطريقة نتعاون ويصبح الاستعداد للعيد شأن عائلي والبيت مَصنع للبهجة.
احتساب الأجر، لطالما حَمل لي الاستعداد للعيد مَسرات عديدة، ولكن لا يمكنني إغفال بَعض المَشقة والتعب والركض الحثيث في التجهيزات. يستحضر خاطري حينها ثَواب إحياء شعائر الله وزرع الفرحة في نفوس عباده وتآلف القلوب وصِلة الأرحام، تتجدد نواياي الطيّبة فيُغسل عن قلبي التعب.
المعروف المألوف،
مُنذ أن كانت تعلو رؤوسنا أطواق الورد أو الشماغ والعقال المقصّب وحتّى هذا اليوم، مَضت أعياد وتمضي أعياد أكثر، ولا زلنا نملك أولئك الذين يشرّعون قلوبهم على مِصراعيها قبل أبواب البيوت، إلى صاحب و صاحبة البيت الكبير، الذي لطالما كان وجهتنا بَعد الصلاة، مَن يفتحون بيوتهم ويستعدّون مُنذ أعوام، اليد التي تعطي العيديات لسنوات واليد التي تحضّر فطور العيد لسنوات، لأولئك أصحاب المعروف الحيّ الذي لم ينضب يومًا، معروفًا بتكراره وبديهيته اعتدناه وألفناه، حتّى صِرنا نَغفل عن شكره وتقديره.
عُد بالذاكرة عزيزي القارئ، مَن هُم أصحاب المعروف المألوف في أعيادك الماضية؟ هل تبادلهم العطاء وتعطي مَعروفهم حَقّه من الثناء والحُب والإمتنان؟
يمكن التعبير عن الامتنان لهذه الأرواح العظيمة المعطاءة جدًا بطرق عديدة: هدية، عِناق حنون، مَد العون والمساعدة، شكر حقيقي صادق، رسالة.
خِتامًا،
احتسبت أجر كتابة هذه الكلمات ثوابًا أجده عند الله لكل قارئ تلامس خاطره كلماتي هذه وتجدد نواياه وتحثه على صناعة البهجة، لذا أودُّ مشاركتي أثر كلماتي على نفوسكم وأعيادكم، ولو كان بسيطًا مثل، نَفخ بالونة واحدة، تعليق زينات، عيدية، مسابقة/فعالية صَنعت بهجتكم.
مضت عِدة أيام على انتهائي من برنامج اخذني في رحلة بين عِدة من المشاعر، واجهتها، حللتها، أدركتها. وحده شعور الفرح بقي عالقًا في ذهني حتّى هذا اليوم، هذه هي المرة الأولى التي أجلس أمامه في نفس الطاولة، فلطالما إعتدت تفكيك شعور الحزن، الخوف، الغضب. أما البهجة؟ فهي البهجة ذاتها، ببساطتها، بلا تفكيك ولا تحليل.
سُئلت لأول مرة في مفهومي عن السعادة؟ هل سعادتي في الحياة مشروطة؟ هل أقف في طريق مسرّاتي دون أن أدرك ذلك؟
لأجد جوابًا على هذه التساؤلات؛ فتّشتُ عن شروط في كلِ فرحةٍ طرقت أبواب أيامي، هل تسلل الفرح إلى خاطري بنعومة؟ أم كان طريق الوصول إليّ وعرًا وشاقًا؟
كان الجوابُ شرطًا يتيمًا واحدًا (كلّما مضيتُ في أيامي بعينين مُبصرتين وقلبٍ نبيه وذهنٍ متيقّظ وأذانٍ صاغية، وجدتُ في أيامي مسراتٍ مُستترة).
فهل نقضي أيامنا نركُض باستماتة لبلوغ أهداف -يصوّرُ لنا بأننا موعودون بسعادة هائلة حال تحققيها- بأعينٍ ترى ولا تبصر وأذانٍ تسمع ولا تنصت وأفئدةٍ غافلة وأذهانٍ شاردة؟ فعن أي خساراتٍ نتحدثُ ها هنا؟
تزامنت جولتي التفتيشية عن شروطي للسعادة مع مشاهدتي للفيلم الياباني Perfect days، يصوّر لنا الفيلم المشاهد اليومية من حياة هيراياما عامل تنظيف دورات مياه طوكيو العامة، كانت المفارقة الحقيقية في اسم الفيلم، فكيف تحظى بأيامٍ مثالية وأنت تعمل في تنظيف المراحيض؟ أخذني الفيلم في رحلة لعدة أيام برفقة هيراياما، ذلك الرجل الذي تعلو وجهه إبتسامة رضا تكاد لا تنفكُّ عن محياه، كان المشهد المُفضل لي رُغم تكراره مُستهل الصباح، استيقاظه بهدوء على صوت العاملة التي تَكنس الشارع قبل انبلاج الصُبح في صوتٍ يتسلل بخشونة من نافذة غرفته كمنبه يومي، رتابة تأهبه للعمل بخطوات ثابتة، ريَّ النباتات، تحيّته الباسمة بانشراح للشمسِ كلّما خرج من بيته ورفع طرفه إلى السماء، اختياره للكاسيت المُناسب لهذا الفجر الجديد وتلذذ مسامعه بموسيقاه المفضلة في طريقه إلى العمل، كان لصباحاته تفاصيلها الآسرة.
غلَّفَ الصمتُ معظم مشاهد الفيلم سِوى من حوارات قليلة مُقتضبة، وحدها مَسراته كانت تشدو بنغمٍ هانئ، فكان يَحفل بلحظات صفائه في استراحة الغداء تحت الشجرة التي وصفها بـ الصديقة، تلك الشجرة التي لطالما تأمل باسمًا خيوط الشمس تسيلُ من بين أغصانها، يبتسم بدهشة لعظيم ما يُبصر وكأن دفء الشمس يلامس محياه للمرة الأولى، يرفع الكاميرا التي تصاحبه دائما ليوثق المشهد .
وفي يومٍ ما وبينما هو مُنهمك بإخلاصه المُعتاد في تنظيف إحدى دورات المياه، سقطت عيناه على ورقة أخفاها أحدهم بجانب المغسلة فتحها ليجد بداخلها لعبة X-O، ألقى بها بلا إكتراث في سلة المهملات مثل باقي المناديل والأوراق. بعد انتهائه من التنظيف وهو يهمُّ بالخروج، عاد مجددًا ليفتّش عن الورقة في السلة، تأملها مجددًا، ثم رسم علامة X وأعاد الورقة إلى مكانها. كانت هذه اللحظة بداية للعبة طرفها الآخر مجهول فكلما عَرج هيراياما لتنظيف هذه الحمامات، كان يجد علامة جديدة، امتدت اللعبة لأيام وانتهت بإمتنان مُتبادل رغم خسارة كليهما، كانت لعبة يجمع أطرافها بحثهم عن البهجة في عالم تحكمه الجدية والرتابة.
فهل يمكننا أن نمضي في هذه الحياة بأسلوب هيراياما في العيش؟ ذلك الرجل الذي يغتنم اللحظات البهيجة بطريقته الخاصة ويجد في عاديّة الأشياء روعتها بلا شروط بل يلقاها بوجهٍ طَلق وخاطرٍ شَرح، وكأي شخص لا تخلو حياته من مُنغصات الحياة، كان لهيراياما قَسمه الخاص منها، فلطالما كان للحياةِ إيقاعها الذي كلّما إرتفع طربًا يعودُ فيدنو شجنًا، في لحنٍ متوازنٍ مُستساغ.
أخذت مني هذه التدوينة جهدًا أكبر في التفكير والتأمل منه في الكتابة، اغتنمت في أيامي الماضية كل المسرات التي طافت حول لحظاتي، ابتسمت عندما ربتت ابنة خالي على الكنبة بحركة ودودة لا إرادية لتفسح لي في المجلس والحديث والضَحكات. ضحكت بفخر لأيام على مناداة ابن أختي لي وهو يردد اسمي بسببٍ وبلا سبب في إحتفال طفوليّ بريء لنطقه الصحيح لحرف الراء أخيرًا!، مشيتُ بخطى مُتمهلة في الحديقة صباحًا لأستنشق بانشراح عبير العُشب المُشذب فجرًا. وفي سرد اللحظات اليومية البهيجة حديثًا لا تسعه سِوى المجلدات.
تبصّرتُ عطايا الله ورَحمته ونعيمه اليومي وكنت أكثر نباهة لمحاولات مَن هم حولي في إسعادي بلفتاتٍ بسيطة مُحبة وعادةً تكون بصورة لا واعية، كما حاولت بفِطنة تحيّن الفرص المناسبة لخلق مسرات يسيرة في أيام أحبتي والناس.
تلقفتها جميعها وملأتُ كأسي بالمسرات المُستترة وشربته سرورًا هادئًا مُستطابًا، إن العيش على طريقة هيراياما أجده ضرورة لا رفاهية في أيامٍ مُتسارعة كهذه نركُض في ميادينها بأعينٍ مُسمّرة نحو غاياتنا الكبرى ولا نلتفت لحظةً لجمال الطريق. خُذ نَفسًا عميقًا عزيزي القارئ وفكّر بترويّ في أحداث هذا اليوم، هل طرقت بابك البهجة وأعرضتَ عنها؟ أم تتحيّن ظروف مُحددة لتشرّع لها الأبواب؟ هل تقف دون إدراك كعقبة تحجب عنك أفراحك؟
كُتب على فاصل مفكرتي “إذا أردت لحياتك أن تكون قصة عظيمة، فابدأ في إدراك أنك المؤلف”، قرأتهُ بعُجالة حين سقطَ بين يديّ في المرة الأولى، رددت “كلام إيجابي لذيذ”، ولم أُعر الكلمات تركيزي الكامل، مضت عِدة أيام وكان هذا الفاصل دليلي كُلّما تاهت أصابعي بين صفحات المفكرة، لأجدني في كُل مرة اقرأه بتمعُّن وكأنني أُثني عليه في أداء مهمته الروتينية.
استطاعت العبارة أن تترك أثرًا في صدري بتكرارها في فضاء العقل، أخذت كلمات مارك هولاهان بُعدًا أعمق من أن تكون مُجرّد -كلام إيجابي لذيذ-، بدأتُ التفكير في الرواية التي ستُنقل عني، تذكرت جذوري من النُسوة اللاتي نُقلت إليّ أخبارهن وقصصهن من جدّات العائلة وأُمي والقريبات، لكُلٍ منهن شخصية متفردة وقصة بأحداث وقرارات وأفراح وأتراح مختلفة، وجوه أجهلها تمامًا وربّما أحمل من محياها شبهًا طفيفًا أراه في المرآة كُل يوم ولا أُبصره، تبدأ الجذور بالتلاشي كلّما حاولت الغوص أعمق أفقد التفاصيل ثُم تُفقد القصة تمامًا ولا يبقى سِوى اسمًا يتيمًا، ومن ثُم يُفقد الاسم.
هذا الاقتباس ترك في ذهني تساؤلاً مُلحًا (كيف ستروى قصتي بين فروعٍ مِن دَمي ولن يعرفوا حينها سِوى اسمي وقصتي وبعض الصور -إن كانوا أعظم حظًا مني؟)، لطالما عِشتُ حياةً كاملةً أبنيها أُدرك فيها حتمية الموت وأغفل عن خلود القصة.
هل فكرنا يومًا بأننا نمضي في هذه الحياة أبطالاً لقصتنا الخاصة؟ هل نراعي في اختياراتنا وقراراتنا ما سيروى عنّا مِن خيرٍ وشر؟
أترك لك دفّة القلم، فاكتب أيها المؤلف قصتك كما تودُ أن تعيش، وكما تَفخر أن تُخلدَ وتروى.
مضى أكثر من عام على نشأة مدونتي هذه دون نشر أي نص، عامًا كاملاً في إنتظار ولادة نصّ ساحر يليق بمستوى رضاي عن ذاتي وقلمي.
لم أظنَّ يومًا أن أكتب في مساءٍ كهذا المساء، تنساب الكلمات من أطراف أصابعي في مساء السبت، بعد عودتي من دوام السبت، تتفجّر كلماتي الحبيسة لعام من داخل عقلي دون توقّف وكأنها إحدى آثار الحمّى التي ألمّت بي مُنذ يومين، أكتب بقائمة مهام أسبوعية مُتعثّرة بسبب المرض واختبار لم أدرس له بعد.
لطالما وددتُّ أن أكتب نصّي الأول في أكثر أيامي صفاءًا، وها أنا أكتبه في أشدّ أيام السنة بأسًا عليّ، أكتب كإحتياج طارئ، كمهدئ ليهدأ الجسم وتسكُن النفس.
عرجتُ إلى سنة ٢٠٢٤ بعد أن سمّرت فوق مصراعيها عنوان (الرحمــة)، عزمت أن أرى جميع أحداثها ومواقفها وأشخاصها بعينين رحيمتين، فصرتُ أرى من خلف الأحداث والكلمات واللفتات ما يجعلني أكثر رِفقًا قولاً وفكرًا وفعلاً.
تلّمست جوانب الرحمة في أقداري المكتوبة فشعرت بمعيّة الله تلفُّني، وارتأيت في هفوات من حولي جوانبًا مظلمة تجهلها معرفتي بهم، وصببتُ في أيامي وخططي العرجاء حنانًا خالصًا جعلني استريح متى تَعبتُ، وأقف متى تعثّرتُ، وأبكي حينما اتألم، وأضحك عندما -تتشربك- الأمور بطريقة عجيبة وصادمة.
إن إيقاف جميع المهام اليوم بصورة عاجلة والجلوس أمام المكتب دون إكتراث لكلِ ما يحدث حولي والفرار إلى الكتابة، ليس إلا فعلاً رحيمًا بي ومثال بسيط لتقديم الرحمة وسكبها على أيام ثقيلة كهذه.
يزورني شعور أن هذه العدسة لم توضع نُصبَ عينيّ إلا بعد عامًا كاملاً قضيته في عملي بين حالات الأورام، حقيقةً لا أعلم، ولكن ما أدركه تمامًا أن ما نتعرض له بشكل يومي/متكرر يصنع فينا تغيرات تراكمية لا ندركها إلا بعد مرور مُدة زمنية -محترمة-، كجبالٍ تنحتها عوامل التعريّة، يجمّلنا بعضها وبعضها يرينا الجانب الدميم من أرواحنا لندرك مُحال الكمال ونسعى لتهذيب ذواتنا.
قررت أن أفسح المجال لتيار الكلمات المحمومة بالعبور حتّى أذان العشاء، فـ الله أكبر الله أكبر..